وضع داكن
22-08-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 082 - منزلة التوكل -2- علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب مشكلة العالم الإسلامي:


أيها الإخوة الكرام؛ مع الدرس الثاني والثمانين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة التي كنا فيها في الأسبوع الماضي منزلة التوكل، ونستمر في هذا الدرس إن شاء الله على هذه المنزلة.
أيها الإخوة الكرام؛ موضوع هذا الدرس علاقة التوكل بالأخذ بالأسباب، ولا أبالغ إذا قلت: إن هذا الدرس من أخطر الدروس، ذلك أن مشكلة العالم الإسلامي هو أنه فهم التوكل قعوداً، وكسلاً، وتواكلاً، ونسي أن الأخذ بالأسباب جزء من الدين، وأن المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء، ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، وأن عالم الغرب أخذ بالأسباب واعتمد عليها فأشرك، وأن عالم الشرق لم يأخذ بها فعصى، والأخذ بالأسباب والتوكل على الله عز وجل كلاهما شرط لازم غير كاف، وهذا الدرس تحتاجونه في كل دقيقة من دقائق حياتكم، في كل وقت، في الصباح والمساء، في العمل وفي البيت، قد تأخذ بالأسباب وتنسى الله، وتظن أن هذه الأسباب وحدها كافية لتحقيق الهدف، وقعت في الشرك الخفي وأنت لا تدري، فإذا تابعت هذا الموقف لابدّ من أن يؤدب الله هذا الإنسان، فمع أنه أخذَ بالأسباب يُبطل فعلها، ويصاب بخيبة أمل، ويصعق، ما الذي حصل؟ إنه ألّه الأسباب، واعتمد عليها، ونسي الله عز وجل، ولا تقل: هذا شيء بعيد، إن أصحاب النبي عليهم رضوان الله وهم على ما هم عليه من قرب من الله عز وجل توهموا بعد فتح مكة أنهم أقوياء وأنهم كثر، فاعتمدوا على كثرتهم وقوتهم، وقالوا: لن نغلب من قلة، فجاءت غزوة حنين، قال تعالى: 

﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)﴾

[ سورة التوبة ]

وفيهم النبي عليه الصلاة والسلام.
 

الدرسان البليغان اللذان نأخذهما من بدر وحنين:


كنت أقول لكم دائماً: نحن في درسين بليغين؛ درس بدر ودرس حنين، درس بدر افتقر أصحاب النبي إلى الله عز وجل فتولاهم الله، ودرس حنين قالوا: نحن، اعتمدوا على قدرتهم، وعلى قوتهم، وعلى عددهم، فتخلى الله عنهم، وهذا الدرس يقع كل يوم مع كل مسلم، إن كنت مُدرّساً تُعِدّ الموضوع إعداداً جيداً، وتظن أن هذا الإعداد وحده كافٍ لإنجاح الدرس، وتنسى أن تقول: يا رب إنني تبرأت من حولي وقوتي وعلمي، والتجأت إلى حولك وقوتك وعلمك، إن كنت طبيباً، تعتمد على علمك، وتنسى أن تتوكل على الله، إن كنت مهندساً، إن كنت موظفاً، إن كنت تاجراً، تستخدم خبرتك في التجارة، وتنسى أن تقول: يا رب هيئ لي صفقة رابحة، فحينما تنسى أن تدعو الله عز وجل، وتعتمد على خبرتك، وعلمك، وقوتك، ومالك، وأسرتك، وعلى من حولك، وعلى من فوقك، وعلى من تحتك، وعلى أتباعك، يتخلى الله عنك، هذا درس بليغ.
 

حاجة النصر إلى إعداد وإيمان:


بل إن أكثر شيء يعانيه المؤمن هو أنه يأخذ بالأسباب ويخيب ظنه لأنه اعتمد عليها، ولا يأخذ بالأسباب ويخيب ظنه لأنه لم يأخذ بها، موقف دقيق، طريق ضيق، عن يمنيه واد سحيق وعن يساره واد سحيق، إن أخذت بالأسباب واعتمدت عليها وقعت في وادي الشرك ، وإن لم تأخذ بها وقعت في وادي المعصية، ولعل الشيء الذي يحتاجه المسلمون اليوم، وقد تألّب عليهم كل الناس، وكل الشعوب، وواجهوا حرباً عالمية ثالثة، إنما هم محتاجون إلى أن يأخذوا بالأسباب، ويتوكلوا على الله، فلو توكلوا ولم يأخذوا بالأسباب لا يستحقون نصر الله عز وجل، ولو أخذوا بالأسباب ولم يتوكلوا لا يستحقون نصر الله عز وجل، النصر يحتاج إلى إعداد، وهو أخذ بالأسباب، وإلى إيمانٍ، وهو توكل على الله.
 

من نفى الأسباب فتوكله مدخول:


قال العلماء: من نفى الأسباب فتوكله مدخول، أي فيه خلل، توكله غيــر صحيح، وهذا عكس ما يظهر لرأي السذّج من الناس، يقول له: سلِّم لسيدك، كُلْ وسمِّ لا تغسلها، لا يضر مع اسمه شيء، ابنه مرض، الله هو الشافي، هذا كله كلام جهل مُطبِق، خذ ابنك إلى الطبيب، واختر طبيباً جيداً، واشترِ الدواء الجيد، ونفذ تعليمات الطبيب بحذافيرها، وبعدها قل: يا رب أنت الشافي، لا شافي غيرك، إن قلت: أنت الشافي ولم تعالج ابنك، لست مطبقاً لمنهج الله، وإن عالجت ابنك ونسيت أن تقول: يا رب أنت الشافي، لم تكن مطبِّقًا لمنهج الله، يجب أن تعالجه، وأن تفتقر إلى الله، عدو ضعيف التوحيد أن يأخذ بالأسباب وينسى الله  عز وجل، راجع مركبتك قبل أن تسافر بها، بعد أن تراجع كل شيء، وتجدد كل شيء، قل: يا رب أنت المُسَلّم وأنت الحافظ يا رب، ولا حافظ غيرك، أما إن لم تراجع هذه المركبة وصار مشكلة في الطريق، صار حادث، لا تقل: هذا ترتيب الله، هذه مشيئة سيدك، لا، قل: أنا قصرت وهذا ثمن التقصير،  يجب أن تأخذ موقفاً علمياً، ما لم تأخذ موقفاً علمياً لا تُعدّ مطبقاً لمنهج الله عز وجل.
قال: إن نفاة الأسباب-من ينفي السبب- لا يستقيم لهم توكل البتة، وإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكَّل فيه، فهو كالدعاء الذي جعله الله سبباً في حصول المدعو به.
 

المؤمن الصادق يأخذ بكل الأسباب ويتوكل على الله:


الآن إنِ اعتقد الإنسانُ أن توكلَه لا قيمة له، هناك من يقول كلاماً غير صحيح كلياً، يقول: المقدَّر كائن توكلت أو لم أتوكل، المقدر كائن أخذت بالأسباب أو لم آخذ، الشافي هو الله، تداويت أم لم أتداوَ، هذا كلام مرفوض كلياً، وكلام غير صحيح، وغير شرعي، وغير أصولي، ولا يُقبل، الله عز وجل جعل الدعاء أحد الأسباب.
هل هناك إنسان يشبع من دون أن يتناول الطعام؟ إنسان ينجب من دون أن يتزوج؟ إنسان يقطف ثمرة من دون أن يزرعها؟ مستحيل، الله جعل النبات سببه إلقاء البذرة في الأرض، وجعـل خروج الماء من الأرض بسبب حفــر البئر، وجعل إنجاب الولد بسبب الزواج، وجعل الشِّبع بسبب تناول الطعام، وجعل الري بسبب شرب الماء، فإذا شخص دقق في حياته اليومية ما شرب ماء، هذا الري مُقدّر من الله عز وجل شربت أو لم أشرب، ما قولك؟ طبقها على الشرب؟ الري مقدر قضاء وقدر، إن كنت مكتوباً عند الله مرتوياً سوف أرتوي شربت أو لم أشرب، إن كنت مقدراً لي أن أشبع لا آكل الطعام أكلت أو لم آكل، لماذا أنت في أمور الطعام والشراب، وحفر الآبار، واستنبات النبات، وإنجاب الأولاد، تعتمد على الأسباب؟ يجب أن تعتمد على الأسباب في شؤون حياتك، لذلك الطرف الآخر أعداء الدين يأخذون على المسلمين تواكلهم، كلام ليس له معنى، بينما المؤمن الصادق يأخذ بكل الأسباب ويتوكل على الله.
 

مقولة لعمر خلّدها التاريخ:


سيدنا عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ مرّ بقرية فوجد أن كل الفعاليات فيها بيد غير المسلمين، فعنفهم تعنيفاً شديداً، فقالوا: كما يقول الآن من أخرج الله من أرضهم ثروة طائلة فعاشوا في بحبوحة كبيرة، يقول لك: الله عز وجل سخر لنا هؤلاء، يركبون مركباتهم، ويستخدمون آلاتهم، ويتنعمون بكل وسائل الحضارة اليوم على أنها من صنع الكفار، ونحن مكرمون عند الله، سخرهم الله لنا، هذا كلام يقوله الجاهل، فقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: كيف بكم إذا أصبحتم عبيدًا عندهم؟ أدرك بعُمق إيمانه، وصواب نظرته، أن المنتِج قوي والمستهلك ضعيف.
 

إتقان العمل جزء من الدين:


قبل أشهر تقريباً قرأت خبرًا طريفًا: إن أضخم شركة صوتيات في اليابان، هي شركة سوني، توفي صاحب الشركة، فقبل أن يموت قال كلاماً فيه مغزى، قال: حينما احتلت أمريكا بلدنا وقهرتنا أردت أن أنتقم منها، كيف انتقمت منها؟ أتقنت صنعتي إلى درجة أنها غزت أسواق أمريكا، وأن هذا البلد الكبير القوي المتحكم اشترى مني من أجهزتي وصناعتي أكثر مما باع العالم كله من هذا الشراب المعروف، هذا نوع من أنواع القوة.
إذا أتقنا عملنا، أتقنا صناعتنا، اكتفينا بزراعتنا، لم نكن عالة على أحد، أكرمنا الله عز وجل، أما قولنا: سخرهم الله لنا، هذا كلام مضحك، نحن مرتاحون، نستهلك، مستهلكون، المستهلك فقير يا إخوان، فقير جداً، والمنتج قوي وغني، أي تعمير محرك طائرة، يكلِّف خمسة ملايين دولار، والدولار بخمسين ليرة سورية، فالحاصل 250 مليون ليرة سورية، هؤلاء محصول قمح كم دونم؟ تعمير محرك واحد، هم يأكلون ثرواتنا إن هم اشتروا منها بأبخس الأسعار، وينهبوننا ثانية إذا هم باعونا، قد نبيعهم ثرواتنا بأرخص الأسعار، جاءت فترة على دول النفط باعوا نفطهم بأقل من كلفته، بيع برميل النفط بـ 6.5 دولار، وبيع بـ 8 ، كلفته 8.5، فإذا باعونا التكنولوجيا نشتريها بأثمان خيالية، بأرقام فلكية، لأنهم منتجون ونحن مستهلكون، نحن كمسلمين يجب أن نعي المشكلة، هم يريدوننا أن نبقى مستهلكين، وهذا يعجبهم، يأخذون ثرواتنا بأقل الأثمان، ويبيعوننا بضاعتهم بأعلى الأثمان، لأننا متوكلون، نحن لنا الله، هذا كلام مضحك، اعقل وتوكل،

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ: أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ، أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّلُ؟ قَالَ: اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

كل واحد منا بحرفته يجب أن يكون الأول، أن يتقن، أن يعمــل ليلاً نهاراً، أنت مسلم، أنت سفير المسلمين.
أنا قلت لكم: هذا الدرس من أخطر الدروس الذي نحن في أمس الحاجة إليه، صاحب الحرفة أتقنها، إتقان العمل جزء من الدين، إن الله يحب من العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه، إتقان العمل جزء من الدين، فإذا أتقنت عملك ارتقيت، لماذا أنت تعيش في الدنيا؟ من أجل عمل صالح، وهل من عمل صالح أعظم من أن تتقن عملك وأن تنفع به المسلمين؟ يوجد كثير من المجالات لنصدر، المصدر المسلم غير متقن، وغير صادق، وغير مخلص، يبيع بضاعة عينات، ويقدم لهم بضاعة أخرى، فنصدر مرة واحدة، وتغلق الأسواق في وجوهنا، هذا التواكل، أنا مُصر على أن هذا الدرس مهم جداً، كل بعمله، يجب أن تأخذ بكل الأسباب.
 

من يأخذ بالأسباب ويتوكل على الله فالله عز وجل لن يخيبه أبداً:


لعل أعظم درس في السيرة هجرة النبي عليه الصلاة والسلام، عيّن من يأتيه بالأخبار، ومن يأتيه بالطعام، ومن يمحو الآثار، سار مساحلاً، واختبأ في غار ثور، واستأجر خبيراً، أخذ بكل الأسباب وكأنها كل شيء، بل إن كُتّاب السيرة حينما يذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام قبيل معركة بدر رفع يديه إلى السماء حتى كاد رداؤه ينزاح من كتفه، يقول: يا رب! إن تُهزم هذه الجماعة، أو هذه الفئة، لن تُعبد بعد اليوم، يقول له الصديق: يا رسول الله بعض مناشدتك ربك، لماذا كان النبي قلقاً؟ أنجح تفسير لهذا القلق أنه خشي أن يكون مقصراً في الأخذ بالأسباب، أنت حينما تأخذ بالأسباب، وتتوكل على الله، الله عز وجل لن يخيبك، أما نحن مستهلكون، مرتاحون، أعمالنا غير متقنة، نرجئ، ونسوف، شيء أنا متألم منه ألماً شديداً الإنسان الشرقي في أوربا، اسمه: آي بي إم، آي: إن شاء الله، أي لا يحقق وعده، يتهرب من تحقيق وعده بكلمة إن شاء الله غير إسلامية، تدفع لنا الخميس؟ إن شاء الله، معنى هذا أنه لن يدفع لك، أما إذا أنت عقدت العزم على أن تدفع، تقول له: أدفع لك يوم الخميس إن شاء الله تعالى، إن أبقاني الله حياً، قد يقولها إنسان بطريقة إسلامية صحيحة:

﴿ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)﴾

[ سورة الكهف ]

لكن يستخدمها المسلمون للتنصل من أداء الحقوق، تأتي غداً؟ إن شاء الله آتي، معناها لن يأتي، اسمه آي، إن شاء الله، ب: غداً، تأجيل، كله تأجيل، الشيء بين يديه، تعال غداً، أعطني هذه المعلومة؟ غدًا، ب، إم: لا بأس، ماذا حصل؟ قصر وأتلفنا المادة وخسرنا المناقصة، ماذا حصل؟ لا بأس، يسمونه آي بي إم، هذا من تقصير المسلمين، أما المؤمن أولاً: لا يسوف، ولا يستخدم كلمة إن شاء الله إلا كما أرادها الله عز وجل، ولا يسمح لنفسه أن يكون سبباً في ضياع المال، عليه الصلاة والسلام توضأ من قعبٍ، من إناء، فضلت فيه فضلة، فقال عليه الصلاة والسلام: ردوها في النهر ينفع الله بها قومًا آخرين، حفاظًا على الماء، طبعاً لا أدري ما إذا كانت هذه العقيدة بين بعض الناس، قال: يقول بعضهم: إن التوكل والدعاء عبودية محضة، لا فائدة لهما إلا ذلك، ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قُدّر له، هذا الكلام إذاً مرفوض، الله جعل التوكل سببًا للعطاء، وجعل الدعاء سببًا للإجابة،  وبالمناسبة ما أمرك أن تتوكل عليه إلا ليُعينك، ما أمرك أن تستعين به إلا ليُعينك، ما أمرك أن تكون معه إلا ليكون معك، ما أمرك أن تدعوه إلا ليجيبك، ما أمرك أن تعبده إلا ليكرمك، شيء دقيق.

  سنن الله في خلقه:


من سنن الله في خلقه أنه قضى بحصول الشيء إذا فعل العبد سببه، فمن لم يأت بالسبب امتنع المُسبَّب، هذا قانون، فالولد يأتي بعد الزواج، والشِّبع يأتي بعد الأكل، والري يأتي بعد الشرب، والحج يأتي بعد السفر، إنسان لا يتحرك، لا يسأل، ويدعـو الله أن ييسِّر له حجَّة، ومقتدر وقادر، لا يتحرك ولا يسعى، دخول الجنــة يحتاج إلى إسلام، وإلى إيمان، وإلى طاعة للواحد الديان، فكل إنسان ترك الأخذ بالأسباب حُرِم المُسبَّب.
هناك نقطة دقيقة؛ الله عز وجل لا يمكن أن يستجيب لإنسان قاعد، يا رب ارزقني، يا رب أعطني، يا رب ارفع شأني، يا رب علمني، جالس، أما حينما تقوم وتتحرك الآن يستجيب الله عز وجل لك.
أوضح مثل: مركبة توقفت، ارفع يديك إلى السماء: يا رب لا تقطعنا، يا رب أصلحها لي، يا رب لا يوجد غيرك، يا رب أنت الواحد الأحد، افتح غطاء المحرك، وابحث عن سبب التوقف، قال له: يا رب ألهمني العلة، الآنّ الله يعينك، ما دمتَ بدأت تأخذ بالأسباب الله يعينك، يا رب تُنبت الزرع، احفر بئراً، لا يستجيب الله للداعي إلا إذا تحرك في الأخذ بالأسباب، العوام لهم كلمة لطيفة: عبدي قُم أقم معك، تحرك، قال: أرأيتم إلى الطير التي ضرب الله بها مثلاً في التوكل، تغدو من العش خماصاً وتعود بطاناً؟ تحركت، خرجت من عشها، والحركة بركة، يقول لك: لا يوجد عمل، لا بيع ولا شراء، تحرك، ابحث، اسأل، اطرق الأبواب، إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ على العَجْزِ، وَلَكِــنْ عَلَيْكَ بالكَيْسِ، فإذَا غَلَبَكَ أمْرٌ فَقُلْ: حَسْبِيَ اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ.
 

حكم من يترك الأخذ بالأسباب:


هناك من يقول: هؤلاء يتركون الأخذ بالأسباب، ويقولون: إذا كان قد قضى لي، وسبق في الأزل حصول الولد والشِّبع والري والحج ونحوها، فلابد من أن يصل إليّ، تحركت أو سكنت، تزوجت أو تركت، سافرت أو قعدت، وإن لم يكن قد قضى لي لن يحصل لي أبداً، فعلت أو تركت، هذا كلام مرفوض، والله سمعتُه أنا مرات عديدة من بعض الأشخاص، أخي لمَ لا تتعالج؟ يقول لي: إذا الله كاتـــب لي الشفاء أشفى، عولِجت أو لم أعالج، وإذا كتب الله لي المرض سأمرض، عولِجت أو لم أعالج، اجلس إذاً، هذا كلام مرفوض، وهو منتشر بين العوام لا بين طلاب العلم.
يقول أحد العلمـاء: هل يُعدّ هذا من العقلاء؟ بل إن البهائــم أفقه منه، فإن البهيمة تسعى بالهداية العامة بالسبب، تذهب لتشرب، تبني عشاً كي يقيها الحر والقر.
 

شروط التوكل:


قال بعض العلماء: التوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بهــا المطلوب، ويندفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل.
الآن: التوكل أحد شروطه الأخذ بالأسباب، التوكل والدعاء يلتقيـان، أحد شروطهما الأخذ بالأسباب، ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب، صار الأخذ بالأسباب أحد شروط التوكل، ومن تمام التوكل ألا تركـن إليها، أن تأخذ بها دون أن تركن إليها، وعبارتي الشهيرة تأخذ بها وكأنها كل شيء، وتتوكل على الله وكأنها ليست بشيء، في الدراسة، في التجارة، في السفر، في الصحة، في الزواج.
خطـب امرأة فوراً وافق، قال، هذه نصيبي، اسأل عنها، لعل هناك تمثيل، لعل هناك كذب،  لعل هناك تدجيل، لعل هناك أشياء مخفية عنك، بعد أن تقول: نصيبي، وهذه الله كتبها لي، وهذا ترتيبه، وهذا شغله، تجد حقائق مُرة بهذه الزوجة، لماذا لم تسأل؟
إن أروع ما قرأته في تفسير قوله تعالى: ﴿الطيبون للطيبات﴾ قال: ينبغي أن يكـون الطيبون للطيبات، هذا معنى، أي احرصوا أن يكون الطيبون للطيبات، أي أمر تكليفي وليست أمراً تكوينياً، يجب أن تجتهد، وأن تسأل، وأن تُحقق، وأن تُدقق، وأن تتمهل، قبل أن تُبرم وإلا تندم، تندم وتقول: الله كتب لنا هذا، لا، الله لم يكتب لك هذا، الله أمرك أن تأخذ بالأسباب، وجعلك خليفتــه في الأرض، وأعطاك حرية الحركة، وقال لك: استشِر، وقال لك: استخِر، وقال لك: ارجع إلى أهل الذكر:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)﴾

[ سورة الأنبياء ]

وقال لك: 

﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)﴾

[ سورة الفرقان ]

هكذا.
 

التوكل والأخذ بالأسباب لا يتناقضان بل يتكاملان:


 أيها الإخوة؛ المسلمون بعامة، والمسلمون في بلاد الشرق بخاصة، في أمسِّ الحاجة إلى هذا الدرس، أن يتعلموا أن التوكل شيء، والأخذ بالأسباب شيء آخر، وأنهما لا يتناقضان، بل يتكاملان، بل إنه من شروط التوكل أن تأخذ بالأسباب، أحياناً طفل يرسب في صفه، يُقصِّر في دراسته، مباشرة يقول الأب: هذا لا يصلح للدراسة، أخرجه، كن حكيماً، عالِج سبب تقصيره، هيئ له أستاذًا خاصًّا، اجلس معه قليلاً، حبب إليه المدرسة، خذ بالأسباب، أما لأول تقصير  يقول لك: هذا ابني لا يصلح للتعليم، كأنه قصّر بحقه. 
أنا أعرف امرأة، طموحها أن يكون ابنها طبيباً، رسب في البكالوريا، فأخذت بكل الأسباب، رسب ثاني سنة، ما يئست، رسب ثالث سنة، رسب رابع سنة، وهي وراءه، أعِدْ، وادرس، هيأت له أجواء، إلى أن أصبح طبيباً، والآن له عيادة في الشام، أربع سنوات رسب في البكالوريا، وأمه مُصِرة على أن يكون طبيباً، نحن من أول بادرة أخرجناه من المدرسة، أطل بالك، خُذ بالأسباب، كل قضية لها أسباب، كَرِه المدرسة، غيِّر له المدرسة، كَرِه الأستاذ، اتصل مع الأستاذ قل له: هذا ابني بين يديك أمانة، أنت ارفع معنوياته، كل شيء له سبب.
يوجد معلم عنده طفل مشاكس مشاغب، بحث فوجد أمه مطلقة، سلوكه الشاذ بالمدرسة سببه أن أمه مطلقة، يفتقد للعطف والحنان، فالمعلم انتبه إلى هذه النقطة، وعوضه بطريقة أو بأخرى، كلف والده أن يأتي بهدية للصف، تقويم يُعلق، حتى يرى عمله، وانضبط الابن، كل شيء له حلّ، لما يكون تفكيرك تفكيرًا سببياً تتفوق، عندما يكون تفكيرك تفكير كسل وتواكل وإرجاء وغداً تكون الأمور كلها جامدة. 
 

ضرورة إتقان العمل:


أنا يلفت نظري في الشعوب الأخرى دأبُها على العمــل، وإتقانها له، ويؤلمني في بلاد المسلمين عدم إتقانها للعمل وميلها إلى الراحة، والكسل، النبي صلى الله عليه سلم قال:

(( عن أبي هريرة: اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا. ))

[ صحيح ابن ماجه ]

والله بسفرتي الأخيرة بأمريكا، شروق الشمس الساعة الثامنة، في الخامسة والنصف الطرقات مزدحمة إلى العمل، عندنا للحادية عشرة لا يوجد حركة، ولا بمحل تجاري، ولا بدائرة، كله يأتي الساعة الحادية عشرة، الثانية عشرة، الخامسة والنصف والشروق الساعة الثامنة الناس كلهم منصرفون إلى أعمالهم، هذا من الإسلام، ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا)) هذا إنسان برمج  نفسَه؛ رتَّب أموره، عمِل برنامجاً يومياً، سجّل مواعيده، سجل المنجزات، الآن أكثر الناس على الذاكرة، تقول له على الحاجة مرة مرتين ثلاث أربع خمس، هو ينوي إنجازها لكنه ينسى، يعتمد على الذاكرة، لا تجد من مئة واحد واحداً يكتب، عنده جدول أعمال يومي، عنده خطة، اليوم عليّ أن أُنجز كذا وكذا، يوجد جدول أعمال، دفتر مواعيد، دفتر إنجازات، كل قضية خطرت في بالك سجلها بأعمال، أنجز منها، تأتيك بتفوَّق، نحن بحاجة إلى نظام، بحاجة إلى أن نأخذ بالأسباب، لأن معنا الحقّ وغيرنا معه الباطل، على باطلهم يتفوقون، وعلى حقنا نُقصر.
 

لا يستقيم توكلُ العبد حتى يصحَّ له التوحيدُ:


يوجد موضوع آخر بالتوكل أنه لا يستقيم توكلُ العبد حتى يصحَّ له التوحيدُ، إذا رأيت الأمرَ بيد زيد أو عُبَيدٍ، أو فلان أو علان، ليس لك علاقة بالله، تتوكل على من ليس بيده الأمر، من ضعف التوحيد ترى أن الأمرَ بيد فلان، فبدل أن تأخذ بالأسباب، وأن تتوكل على الله، تتجه إلى فلان، فلان عبد ضعيف فقير، مما يتناقض مع التوكل الشرك الخفي.
كل إنسان يتعامل مع أشخاص على أنهم يفعلون ويتركون، يرفعون أو يخفضون، يعطون أو يمنعون، يُسعِدون أو يشقون، كل إنسان يتعامل مع أناس هكذا يعتقد أنهم كذلك، صار توكله ضعيف، لك قريب قوي، فأنت تعلِّق الأمل عليه، طبعاً ليس من المعقول أن تسأل اللهَ ذلك، أنت ترى فلاناً، مادام هناك اتجاه إلى فلان نسيت الله عز وجل، ما الذي يتناقض مع التوكل؟ الشرك الخفي، لذلك لا يستقيم توكل العبد حتى يصحّ له التوحيد، بل التوحيد حقيقة التوكل، الله عز وجل وحده هو المعطي والمانع، والرافع والخافض، والمعز والمذل وحده، فأي توحيد اختلّ ميزانه اختلّ معه التوكل، فأنت إن أيقنت أن الله بيده الأمر كله تتوكل عليه، أما إن توهمت أن الأمر بيد غيره تتوجه إلى غيره.
 

حقيقة التوكل:


قال العلماء: حقيقة التوكل توحيد القلب، فما دامت فيه علائق الشرك، فالتوكل معلول ومدخول، وعلى قدر التوحيد يكون التوكل، فالعبد متى التفت إلى غير الله عز وجل أخذ الالتفات شعبة من شعب قلبه، فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة، ومن هنا ظنّ من ظنّ أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب، لا، يقول لك إنسان: أسأل كثيراً إذا وسطت فلاناً أكون غير مؤمن؟ لا، إذا أنت مؤمنٌ وموحِّدٌ وترى أن الأمر كله بيد الله، لكن الله جعل لكل شيء سببًا، فوسَّطت فلانًا، وكتبت استدعاءً، وقدِّمت اعتراضًا، ورفعت مذكرة، وأقمت دعوى، وأخذت بالأسباب كلها، هذا التوكل صحيح، إياك ثم إياك أن تتوهم أن الأخذ بالأسباب يتناقض مع التوكل، لا والله، أما التوكل يتناقض مع الشرك الخفي، الإنسان حينمــا يشرك مع الله جهة قوية عندئذٍ ينسى الله عز وجل ولا يتوكل.
التوكل محله القلب، والأخذ بالأسباب محله الجوارح، فإذا عُكِس الأمر انتهى التوكل، نُقِض التوكل، التوكل مكانه القلب، فأنت تأخذ بالأسباب وقلبك معلق بالله، أما الذي لا يأخذ بها وقلبه معلق بغير الله هذا فَقَد رُكني التوكل، التوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب، وتعلُّق الجوارح بها، الأعضاء والجوارح مكان الأخذ بالأسباب، والقلب مكان التوكل، هذه نقطة ثانية.
 

علاقة التوكل بالتوحيد:


النقطة الثالثة في الدرس علاقة التوكل بالتوحيد، أنت تتوكل ويصح التوكل إذا أخذت بالأسباب، سيدنا عمر سأل أناسًا فقراء: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.
مرة رجل وجد بالطواف في أثناء الحج لوزة، رفع عقيرته ونادى: من صاحب هذه اللوزة؟ سمعه عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ، وكان يكره التّظاهر، قال له: كُلْها يا صاحب الورع الكاذب، إذا شخص وجد حمصة، اعمل منادياً عليها، من أصاع حمصة مثلاً؟ غير معقول، قال له: كُلْها يا صاحب الورع الكاذب.
من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون، فقال رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ: كذبتم، المتوكل من ألقى حبة في الأرض ثم توكل على الله.
إن شاء الله في درس قادم نتابع موضوع التوكل، والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور